مهما كان مجاله ويبدو لنا أيضاً أن أخبار الشعراء مع كبار رعاة الأدب إنما اقترنت بنصوص إبداعية كبرى في التراث الشعري العربي وسجلت عن الشعراء تصريحات، بعوامل الإجادة الخاصة التي صدرت منهم في هذه النصوص المتميزة، ولا تهمنا صحة هذه الأخبار بقدر ما تهمنا وظيفتها ودلالتها وهي دلالة جوهرها أن النص الشعري الكبير وراءه في أغلب الأحيان انفعال مالي كبير كائن قبل القول أو ماثل في أفقه.
والحافز المالي من أهم الأسباب التي أغرت الشعراء باختراع المعاني وتوليد بعضها من بعض وتجويد صور عبارتها بما ينطبق عليه قول الكاتب الألماني فيشـــر عن عـــلاقة الرأسمالية بالفن إلى حــــــد كبير، وهو قوله إنهــــــا قد: أطلقت قوى إنتاج فني هائلة وساعدت على ازدهار الفنون وعلى إنتاج مجموعة كبيرة من الأعمال الفنية الأصيلة.
على أن لهذه المسألة وجهاً آخر طريفاً يتمثل في أن الشعر أيضاً قد ينمي المال ويزكيه ويتسبب فيه أو يزيد منه لما يجلبه من غنى ومنافع لمن يقال فيهم، ومن هذه الزاويــــة فإن رعاية الإبداع قد تتحول إلى استثمار والشاعر قد يتحول، وقد تحول فعلاً في حالات بعينها، إلى عون اقتصادي وطرف مالي، وهو ما يزيدنا إدراكاً لانخراط الثقافة ممثلة بالشعر في سلم القيم وحركة التبادل.
ثم إن رأس المال والنشاط المالي محتاج إلى الثقافة، والفن من سبيل أخرى مرتبط بالسوق، هذه المرة هي سبيل الإشهار: وهذه ليست ظاهرة جديدة على العرب لرسوخ قدمهم في التجارة والشعر معاً: فقد روى صاحب الأغاني ضمن أخبار سعيد الدارمي وهو من الشعراء الظرفاء في القرن الأول الهجري أن تاجراً من الكوفة قدم المدينة بخُمر فباعها كلها وبقيت السود منها، وكان صديقاً للدارمي فشكا ذلك إليه، فقال له: لا تهتم بذلك فإني سأنفقها لك أجمع، ثم قال: أبيات مشهورة تداولها الناس فلم يبق في المدينة ظريفة إلا ابتاعت خماراً أسود حتى نفد ما كان مع العراقي منها !!
وقد يحدث مدح الرجل بالجود والإشادة بذلك في الشعر لدى جمهور الناس انطباعاً بكونه غنياً فتحيط به هالة المال: مما يمكن أن نسميه غنى الشعر، وهو جزء من معنى قول البحتري في الفتح بن خاقان طويل:
أراك بعين المكتسي وَرَقَ الغِني
بآلائك اللاتي يعــــــــددها الشعر
وبهذا ننفذ إلى أمر وهو أن بين المال والشعر تفاعلاً وتجاذباً لا يجعل أحدهما ينجر عن الثاني ويتأثر به كماً أو نوعاً أو كليهما فحسب، وإنما يجعلهما يتقاربان ويتماسان، فيكتسب الشعر البعض من أبعاد المال ويكتسب المال البعض من أبعاد الشعر ويكادان يتبادلات المواقع، بل إن القصيدة لتصبح في تخيل بعض شعراء الصناعة العالية مال وتوهم بحضور نقدي وتتحلى بنمنمات العملة يكافئ بواسطتها الشاعر صنائعه ويسدد بها ديونه، وهو معنى قول البحتري طويل:
إذا نحن كافأناكـــــــــمُ عـن صنيعة
أنفنا فلا التقصير منا ولا الكفــــــرُ
بمنقوشة نقش الدنـــــــــانير يُنتقى
لها اللفظ مختاراً كمــــا ينتقى التبرُ
تـــــوفي ديــــون المنعمين ويقتفى
لهم مــن بواقي ما أعاضتهم الفخرُ
وفي مدح حفص بن عمر الأزدي: طــويــــل
ومــــــــا كنت ذا فقر إلى صلب ماله
ومــــا كان حفص بالفقير إلى حمدي
ولكن رأى شعـــــــــري قلادة سؤود
فصـــــــــاغ لها سلكاً بهياً من الرفد
فمــــــــــا فاتني مـا عنده مـن حبائه
وما فاته من فاخر الشعر مــا عندي
في هذا المستوى من التعاقد بين الشعر والمال يصبح الجود حدثاً شعرياً والقصيدة حدثاً مالياً: بمعنى أن قصيدة المدح خاصة تحقق لقاء بين حالتي كرم حالة كرم الممدوح وحالة كرم الشاعر بما يجعلهما يلتقيان في الكرم ويختلفان في مادته: ذلك أن الجود كالشعر حال لها أوقات وفيها انفعالات وعلامات، والشعر حالة جود فيها ما يشبه ما في الحالة الأولى، فيكون التعاقد المشار إليه لقاء بين رجلين في حال اكتمال عالية: وهو ما قد يعلل جزئياً ما يتجاوز العامل المالي في فهم أسباب الظاهرة المدحية، وهو أمر نعترف بأنه لا يتم إلا بين أفراد قلائل من الشعراء ومن الممدوحين، وحقيقته أن يعطي الشــــاعر شعره كرماً في مجتمع يدين في ثقافته الأساسية بالكرم لبعض من يعتقد أنهم يستأهلونه لأن مال الشـــاعر شــعره: وهو ما صاغه المتنبي في القـــرن الرابع صياغة جيدة إذ افتتح بعــض قصائده في أبي شجاع فاتك الرومي وقد أهداه هديـــة عظيمة بقـــوله مخـــاطباً نفـسه بسيط:
لا خيل عنـــــدك تُهديها ولا مالُ
فليُسعد النطق إن لم تُسعد الحالُ
أما ما يميز العصر الحديث، عندنا وعند غيرنا في هذا الشأن، فهو ظهور مفهوم المؤسسة والتي تحتل المؤسسة الثقافية فيها وضعاً متفرداً ضمن مجموعة مؤسساتها المختلفة، ويعكس كذلك ارتباط الثقافة والفكر والأدب بحركة الواقع الاجتماعي حينما انتقلت الجائزة على الإبداع الثقافي إلى الشكل المؤسسي للثقافة كما نرى الآن في جائزة نوبل العالمية المنطلقة من مؤسسة نوبل والأكاديمية السويدية، أو جائزة الملك فيصل العالمية المنطلقة من مؤسسة الملك فيصل الخيرية